ثمة مسائل وقضايا شائكة وحيوية في آن, تثيرها التطورات الإقليمية والدولية اليوم, ولا نبالغ حين القول: أن تسعير التوترات وإشعال بؤر العنف بكل أصنافه وأشكاله, جاء نتيجة العقلية الاستبدادية, التي سادت مناطق عديدة من العالم, وهكذا فالعنف والقهر والاستبداد, هو الذي أيقظ الخصوصيات بنحو سلبي, كما أن إرهاب الدولة وغطرستها وتغولها وسعيها المحموم لدحر ما عداها, هو الذي أدي إلي تسعير التوترات
مفهوم الأقليات :
بعيدا عن المضاربات الأيدلوجية والسياسية , بإمكاننا أن نحدد معني الأقليات بأنها : التكوين البشري , الذي يتمايز مع جماعته الوطنية في أحد العناصر التالية :
الدين - المذهب - اللغة - السلالة . وهذا التمايز تعبير عن التنوع الطبيعي بين البشر .
فالاقليات هي أية مجموعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات التالية : الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالة . ولا يعني ذلك كل من يختلف عن الأغلبية في أحد هذه المتغيرات هو مناوئ للقومية العربية أو لمطلب الوحدة . فهناك من بين أفراد بعض هذه الأقليات من ناضلوا في سبيل قضية الوحدة , وأسهموا مساهمات رائدة في الفكر القومي العربي . لذلك فإن توصيف جماعة مغين ة كأقلية لا يعني بالضرورة أي حكم مسبق علئ اتجاهاتها نحو مسألة الوحدة . والعبرة كما قلنا هي ما إذا كان أي من هذه المتغيرات الدين - اللغة - الثقافة - السلالة يضفي علي مجموعة بشرية معينة قسمات اجتماعية - اقتصادية - حضارية تلون سلوكها ومواقفها السياسية في مسائل مجتمعية رئيسية
إن درجة التميز وحدته وعمقه الاجتماعي والسياسي وأهدافه وتطلعاته القريبة والبعيدة , مرهون كل هذا إلي حد بعيد إلي طبيعة التعامل الذي تمارسه السلطات السياسية والاجتماعية . فإذا كان التعامل جافا وبعيدا عن مقتضيات العدالة والحرية , فإن الشعور بالتميز الذي يفضي إلي تمييز وتهميش من قبل السلطات , سيؤدي إلي المزيد من التميز والتشبث بالخصوصية , وسيدفعه هذا الشعور العميق بالتميز بتبني خيارات واتجاهات تزيد انفصاله الشعوري والعملي عن المحيط العام . إما إذا كان التعامل مرنا وسياسيا , فإن درجة الشعور بالتميز تتضاءل وإمكانية الاندماج الطوعي تتعمق وتتواصل .
فالسلطة السياسية يجب أن تبحث نظام للتضامن والتعامل الحسن والحضاري مع هذه الأقليات , نظام يلبي متطلبات الأقليات الدينية والثقافية والتعليمية والاجتماعية , كما يلبي متطلبات الوحدة والاستقرار . هذا النظام المرن والحيوي , هو الذي يزيل كل التوترات , ويحد من نزعات التهميش والتميز .. بل نستطيع القول : أن النظام السياسي والاجتماعي المرن والمتسامح , يتمكن من توظيف الشعور بالتميز لدي المجموعات البشرية , في بناء الوطن وإزالة كل عناصر التوتر .. أي أن الديمقراطية تجعل دور التميز دورا وحدويا , اندماجيا , بعيدا عن كل أشكال التقوقع والدوائر المغلقة .
كلما قلت وتضاءلت مستويات الاندماج , كلما برزت في المجتمع مسألة الأقليات وتداعياتها السياسية والاجتماعية والثقافية . بمعني أن وجود الأقليات في أي فضاء اجتماعي , يتحول إلي مشكلة , حينما يفشل هذا الفضاء ولعوامل سياسية واجتماعية وثقافية عديدة في تكريس قيم التسامح واحترام الآخر .
إن الأقليات كمفهوم وواقع مجتمعي , لا يكون في قبالة ومواجهة القوميات والوطنيات , ويسيء إلي جميع هذه المفاهيم من يجعل من مفهوم الأقليات مواجها لمفهومي القومية والوطنية , لأنه من المكونات الأساسية لك ل قومية ووطنية هويات متعددة إما دينية أو مذهبية أو إثنية أو لغوية .. ولعل من الأخطاء الكبري أن تعالج الطائفية كما لو كانت إحدي ترسبات التاريخ الأيديولوجي العربي وتجلياته المرضية , باختصار أن الوعي الطائفي هو نقيض الوعي القومي , وأن هذا النقيض أصبح يعبر عن الماضي أكثر مما يعبر عن المستقبل , وأنه لا بد زائل من تلقاء نفسه متي ما تم التأكيد علي الوحدة والشعور القوميين وضرب علي يد كل من يسعي إلي استغلال الشعور الطائفي البغيض والمتقادم
ولا نبالغ حين القول : أن أحد الأسباب الرئيسة لسقوط الإمبراطوريات وتداعي الكيانات السياسية الكبري , كان بفعل الاستبداد وغياب الحريات النوعية الناظمة للعلاقة والمصالح بين مجموع التعبيرات والأطياف المتوفرة في المجتمع . وإن هذه الإمبراطوريات والكيانات والدول , بدأت الانحدار حينما ساد التمييز بين القوميات والإثنيات , وغاب التضامن الداخلي علي قاعدة المواطنة الواحدة , وبرزت كل النزعات الاستبدادية , التي حاولت الاستفادة من كل أسباب القوة للغلبة علي الأطراف الداخلية الأخري .
ومسألة الأقليات بكل عناوينها ومسمياتها , من المسائل الحساسة في المجالين العربي والإسلامي , وتحتاج إلي قراءة ودراسة عميقة لواقعها وصولا إلي بلورة رؤية حضارية متكاملة في طريقة التعامل معها وكيفية اندماجها الطوعي والاختياري مع النسيج الوطني والمجتمعي . ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول , أن الكثير من النكبات الاجتماعية والانفجارات السياسية , كان من جراء عدم التصدي الجاد لعلاج هذه المسألة في الواقعين العربي والإسلامي .
نقد العلمانية :
علي المستوي التاريخي , نجد أن علمانية الحركة القومية , وعلمنة مشروع الوحدة , لم يلغ مسألة الأقليات ولم يعالجها وفق نسق حضاري يحترم خصوصياتها ويشركها علي قدم المساواة في إجتراح دورها في مشروع الوحدة . وعلي المستوي الواقعي , نجد أن العديد من الكيانات السياسية العلمانية , لم تستطع أن تتجاوز عصبيات الواقع والدوائر التقليدية المتوفرة في المجتمع . بمعني أن العديد من الوجودات السياسية العلمانية , هي عبارة عن يافطة حديثة لواقع تقليدي , عصبوي .. فالكثير من الأحزاب هو واجهات لواقع تقليدي . لذلك فإن العلمانية في التجربة العربية والإسلامية , لم تستطع أن تتجاوز بشكل حضاري خصوصيات الواقع ودوائره الخاصة المتوفرة .. فالتجربة العلمانية العربية , مارست السياسة بآليات متخلفة وتنتمي إلي عصور الانحطاط , وإستقوت علي غيرها من الوجودات والتعبيرات , بالاستقواء بالعصبيات التي جاءت علي المستوي النظري كحل لتجاوزها ومنع تأثيراتها السلبية .. فالممارسة العلمانوية أضحت في مناطق العالم العربي , ممارسات طائفية , حيث الاحتماء بطائفة ضد أخري , وممارسات قومية شوفينية , حيث الاستناد بقومية وقمع القوميات الأخري .. وهذا أدي في المحصلة النهائية إلي أن التجربة العلمانية العربية , أنتجت وبزخم جديد كل الصراعات والنزاعات الداخلية , والتي جاءت كوصفة نهائية لعلاجها وإسقاط موجبات بقائها . فتحولت علي مستوي التجربة العملية , إلي إضافة جديدة إلي الصراعات العميقة التي كانت تعاني منها مجتمعاتنا . وهذا يدفعنا إلي القول : أنه حينما تغيب الديمقراطية والحريات النوعية , تتحول كل الشعارات والمضامين الحديثة , إلي واجهات لإنتاج الأزمات التقليدية والعقد الكامنة في المجتمعات العربية والإسلامية . فالديمقراطية هي الشرط الذي لا بد منه للسير نحو تطوير البني السياسية والثقافية والاقتصادية للمجتمع .. كما أن الديمقراطية هي التي تدفع السيرورة الاجتماعية للتعاون والتضامن والاندماج بين الأقليات علي أسس أكثر عدالة وتسامحا ومساواة .. فالاستبداد والديكتاتورية , هي التي جعلت الواجهات الحديثة ذات محتوي أو طابع طائفي أو قومي محض . وبهذا غابت المواطنية , وسادت البني الطائفية والقومية المغلقة والمنعزلة في آن ..
وإن التعامل السليم والعادل مع واقع الأقليات والإثنيات المتعددة في المجالين العربي والإسلامي , لا يعرقل مشروع الأغلبية في الأمة . وإن الاعتراف بوجود هذه المشكلة أو هذا المأزق , هو الخطوة الأولي في مشروع الإصلاح . ولابد من الإدراك , أن المشروع الغربي تجاه أقليات المجال الإسلامي , يتجسد في تضخيم مشاكله ومآزقه لإعاقة وعرقلة مشروع الأمة والأغلبية .. ومواجهة هذا المشروع , لا تقتضي منا نفي المشكلة من أصلها , أو رفض المطالب المشروعة لهذه الأقليات والإثنيات , وإنما يتطلب بلورة مشروع حضاري متكامل , يلحظ خصوصية هذه الكيانات , ويؤسس لتعامل عادل مع وقائعها وطموحاتها وهواجسها , حتي نمنع كل توظيف سيئ لهذه الحالة .. وصولا لتأسيس ميثاق وطني جديد , يأخذ علي عاتقه احترام الأقليات والإثنيات عبر فسح المجال لهم للتعبير عن خصوصياتهم العقدية والثقافية والشعبية , وصيانة مفهوم الوحدة الوطنية علي قاعدة الحرية واحترام حقوق الإنسان وتوفير كل متطلبات العدالة السياسية والاجتماعية والثقافية .
وبدون هذا سيبقي النزيف الداخلي , وستتعمق الجراح والاحتقانات وسيبقي واقعنا بكل تفاصيله ساحة خصبة لمؤامرات الأعداء ومطامحهم التاريخية . فالأمن الشامل والدائم , هو وليد العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي , وكل محاولات وإجراءات استتباب الأمن لا فعالية لها ما دام مفهوم العدل لم يتحقق في الواقع المجتمعي . وترتكب الدول والمجتمعات أخطاء فادحة , حينما تنشد الأمن والاستقرار بعيدا عن متطلبات العدالة وحقائق الحرية والمساواة . والدين كمنظومة مفاهيمية متكاملة , ليس هو مصدر التعصب الطائفي أو الإثني , وإنما الأوضاع السياسية والاقتصادية الشاذة والظالمة , هي التي تدفع المجموعات البشرية المتضررة من هذه الأوضاع إلي البحث عن وسائل لحماية ذاتها في خصوصياتها وإنتماءاتها العميقة . كما أن المجموعات البشرية المستفيدة من الأوضاع , فإنها تتشبث بخصوصياتها , لكي تحافظ علي مكتسباتها ومصالحها . لذلك فإن مصدر التعصب والتطرف , هو الأوضاع السياسية والاقتصادية الظالمة , التي تمارس فرزا عميقا لكل فئات المجتمع علي قاعدة إنتماءاتهم المذهبية والإثنية والسياسية والأقوامية . والقضاء علي هذا التعصب والتطرف , لا يتم عبر محاربة الدين
وأشكال التواصل معه بل عبر مواجهة الظروف السياسية والاقتصادية , التي عمقت هذا التعصب , وعملت علي بناء واقع سياسي علي قاعدة التمييز والتهميش لفئات اجتماعية , والامتيازات والثروات والمناصب لفئات اجتماعية أخري .. فالأداء السياسي الظالم والبعيد عن مقتضيات العدالة والمرونة والتسامح , هو المسؤول عن كل حالات التعصب والتطرف بكل أشكاله ومستوياته . وإن الاستقرار السياسي والمجتمعي , القائم علي احترام تعدديات المجتمع وتنوعه الفكري والسياسي , هو الذي يؤدي إلي نضوج خيار التمازج والتداخل والتواصل المتبادل بين مجموع تعبيرات المجتمع والأمة .
ويبدو أننا من دون فهم واقع الأقليات والإثنيات في المجالين العربي والإسلامي , وبلورة المعالجة الحضارية لهذا الواقع . من دون هذا سيبقي الواقع الداخلي والمجتمعي للعرب والمسلمين , يعاني الكثير من الأزمات والاختناقات والنكبات , لأن العديد من الصراعات والحروب الصريحة والكامنة , تجد جذورها ومسبباتها العميقة في هذا الواقع الذي يتم التعامل مع الكثير من عناوينه وقضاياه بعيدا عن مقتضيات العدالة والديمقراطية . وحينما نلح ونصر علي ضرورة قراءة هذه المسألة ودراستها بشكل معمق , لا نريد تبرير واقع الانقسام والتجزئة , أو نشجع أصحاب المصالح في الخارج للاستفادة من هذه الفسيفساء أو التناقضات , وإنما نريد إعادة بناء مفهوم الوحدة الوطنية علي قاعدة أكثر حرية وعدالة ومساواة . ولا يمكننا الوصول إلي ذلك دون الاعتراف بهذه المشكلة , والعمل معا من أجل بلورة المعالجة المناسبة لها .
العدالة سبيل التعايش :
لا يمكن أن تتعايش التنوعات كلها في إطار أمة واحدة ووطن واحد , إذا لم تسد قيم العدالة الواقع الذي تعيشه هذه التنوعات .. فالظلم بكل صوره وأشكاله , يفتت التنوعات ويشرذمها ويؤسس لمنطق الحروب والنزاعات المفتوحة بينها . ولا سبيل لتعايش حضاري بين التنوعات والتعبيرات المختلفة , بدون عدالة , تلغي كل حالات التهميش والتمييز , وتمنع سيادة منطق الغلبة والإلغاء , وتحافظ علي كل أسباب العدالة في نمط العيش وأشكال العلاقة .
والعدالة التي نعتبرها سبيل التعايش الحضاري بين مختلف التنوعات تعني : نبذ كل أشكال التمييز والإقصاء والإلغاء , واعتبارها من القضايا الرئيسة التي تهدد وحدة الوطن وأمنه . فالذي يهدد الوحدة , هو التمييز والتهميش والإقصاء . ولا سبيل لإنجاز مقولة العدالة , إلا بنبذ كل أشكال التهميش والإقصاء الذي تتعرض إليه بعض التنوعات . وهنا يتطلب أيضا الوقوف بحزم ضد كل محاولات التشويه التي تتعرض إليها بعض المدارس العقدية والفكرية والسياسية , وذلك لأن السماح إلي المغرضين إلي تشويه سمعة الآخرين الذين هم جزء لا يتجزأ من الوطن .
تكافؤ الفرص الوظيفية والإدارية والسياسية والثقافية , صيانة الحقوق الدينية والسياسية والثقافية , فلا يكتمل عقد العدالة , إلا بالعمل علي صيانة حقوق الأقليات الدينية والسياسية والثقافية , تطوير النظام السياسي وإرساء دعائم ومتطلبات الديمقراطية فيه .
الحرية تعني غياب الإكراه :
فالمعني البسيط والمباشر للحرية , يعني حرية الاختيار . ولا اختيار حر في ظل الإكراه . لذلك فإن الحرية تعني غياب الإكراه علي المستويات كافة . بحيث أن الإنسان يمارس حقوقه ويلتزم بواجباته بعيدا عن الإكراهات المتعددة , التي تحول دون الممارسة السليمة لمفهوم الحرية . وعلي المستوي التاريخي كان تطور مفهوم الحرية علي الصعيد المجتمعي , هو من جراء نضالات مستميتة ومعارك ضارية من أجل تثبيت قيم الديمقراطية , وإنهاء كل عناصر الإكراه التي تحول دون التراكم الإيجابي لقيمة الحرية . ولا يمكن بأي حال من الأحوال , اعتبار القمع والإكراه والعنف , وسيلة من وسائل تنظيم الحياة الوطنية وضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع . وذلك لأن هذه العناصر تزيد الأزمات وتعمق خيارات الإقصاء , وتزيد من فرص الحروب بين السلطة والمجتمع .
إن الحرية هي القيمة الأساسية التي تحقق مفهوم العدالة في بعدها السياسي والثقافي فلا عدالة سياسية بدون حرية سياسية تتجسد في حرية تشكيل الأحزاب والتكتلات السياسية وتجذير مفهوم تداول السلطة , كما أنه لا عدالة ثقافية , إذا لم تعط الحرية لكل القوي والوجودات , لكي تعبر عن ذاتها وخصوصياتها الثقافية . فالعدالة لا تتأتي إلا بتوافر الحريات العامة علي نحو حقيقي ونوعي .
إن تسفيه مشاعر الآخرين , لا يقود إلي التضامن والوحدة , بل إلي الشقاء والمحنة . وهكذا نصل إلي حقيقة أساسية مفادها : أن اندماج الأقليات في مشروع الوطن والوحدة الوطنية أو القومية , يتطلب إعطاءها الحرية لممارسة شعائرها وطقوسها الدينية وفسح المجال القانوني لتاريخها الثقافي , ولمساهمة ثقافتها الراهنة في صياغة واقعها الخاص . حينذاك أي حينما تمنح الأقليات الحرية , سيتم الاندماج الطوعي والاختياري في مشروع الوحدة الوطنية والقومية .
الحرية بوابة الوحدة :
لكي ترتفع الأقليات والإثنيات من دوائرها التقليدية وكياناتها الذاتية إلي مستوي المواطنة الجامعة , هي بحاجة إلي عوامل موضوعية وسياسية , تساهم في إشراك هذه الدوائر والكيانات في بناء مفهوم الأمة . ولقد علمتنا التجارب أن التعامل القهري مع هذه الكيانات الأقلوية والإثنية , لا ينهي الأزمة , ولا يؤسس لمفهوم حديث للأمة والوطن , وإنما يشحن المجتمع بالعديد من نقاط التفجر والتوتر , ويدفع هذه الكيانات إلي الانكفاء والانعزال , وبهذا يسقط مشروع الأمة والمواطنة الجامعة .
وخيار القمع والاستبداد خلال العقود المنصرمة , وفي مناطق عديدة من مجالنا العربي والإسلامي لم يقض علي هذه المشكلة , ولم يؤصل لمنظور وحدوي جديد , يتجاوز فيه بشكل حقيقي وعميق مشكلة الكيانات الخاصة . وإنما أدي خيار الديكتاتورية والقمع , إلي مسلسل رهيب من التهميش والتمييز علي مختلف الصعد بحق أبناء الأقليات والإثنيات . حيث أن المشروع الوحدوي الذي يستند علي الديكتاتورية والاستبداد , يفضي إلي المزيد من الفرقة والتشرذم والتشظي والبعد عن كل متطلبات الوحدة . لأن الوحدة الوطنية أو القومية , لا تنجز علي قاعدة إفناء التنوعات الداخلية , وإنما عبر توفير الحرية لها , ولكي تمارس دورها في بناء الوحدة .. والخطاب الوحدوي الذي حارب الأقليات والاثنيات والقوميات الأخري , باعتبارها مضادات للوحدة أو طوابير خامسة للقوي المعارضة للوحدة , انتهي المطاف إلي إقليمية ضيقة , لا يري إلا الإقليم القاعدة , ولا يحترم إلا مصالحه وتحالفاته وواقعه السياسي .
والتجارب الوحدوية الفاشلة , التي عمقت بفشلها وتراجعها وسلبياتها حالات التجزئة , كان السبب الأساسي في تقديرنا لفشلها وإخفاقاتها , هو في اعتماد هذا المشروع علي ديكتاتورية عسكرية وسياسية لإنجاز هذا المفهوم الحضاري . كما أن الوحدة التي تستند في خلق واقعها ومسيرتها الفعلية علي سلطة مستبدة , لا تنجز الوحدة , بل تعمق خيار التفتيت والتشظي تحت مسميات ويافطات عديدة . فالاستبداد لا يخلق وحدة , بل تشظيا وتفتتا وانزلاقا نحو الحروب الداخلية المميتة لكل حيوية وفعالية باتجاه الوحدة ومتطلباتها السياسية والاجتماعية .
الحرية شرط تجاوز الطائفية :
الحقائق التاريخية عنيدة , ومشروع الوحدة لا ينجز علي أنقاضها . حيث تعلمنا التجارب أن كل المحاولات التي بذلت لتدمير هذه الحقائق التاريخية كشرط للوحدة باءت بالفشل , وذلك لأن هذه الحقائق متجذرة وتمتلك امتدادات عميقة في الجسم الاجتماعي .. لذلك نستطيع القول أن طريق الوحدة , لا يمر عبر محاربة هذه الحقائق , وإنما عبر احترامها وتوفير الحرية اللازمة لها , حتي تتوفر الظروف والمناخات المؤاتية لانخراطها الحضاري في مشروع الوحدة والتوحيد . فالمشترك الوطني , لا يعني إلغاء الخصوصيات الدينية أو المذهبية والثقافية , وإنما يتطلب احترامها وفسح المجال لها , لكي تمارس دورها ووظيفتها في إثراء مفهوم الوحدة بمضامين حضارية , تتجاوز الرؤية الآحادية والنهج الإقصائي .
واحترام الأقليات وإعطاؤها الحريات اللازمة يعني فسح المجال القانوني والاجتماعي , لكي تمارس هذه الأقليات شعائرها الدينية بعيدا عن الضغوطات والتجاذبات . فسح المجال الثقافي والسياسي , لكي تمارس الأقليات خصوصياتها اللغوية والثقافية . الشراكة السياسية والاقتصادية , حتي تنطلق الطاقات والقدرات في مشروع بناء الوطن وعمرانه .
لهذا نستطيع القول : بأن مفهوم الشراكة السياسية والاقتصادية في بناء الوطن وإدارته تقتضيان إلغاء كل أشكال الإقصاء والتمييز , والشفافية في الإدارة وتسيير الشؤون العامة , ووجود عقد اجتماعي - سياسي ينظم العلاقة بين مختلف الدوائر والقطاعات , حتي تنتظم جميع الكفاءات الوطنية في مشروع البناء والعمران .
الحرية طريق المواطنة :
إذا توفرت الحرية والعدالة , توفرت عناصر العقد الاجتماعي الحقيقي , الذي يحافظ علي الاستقرار ويعمق عوامل الأمن الشامل . فتتوفر كل العناصر المطلوبة لمفهوم المواطنة الحقة . فلا مواطنة بدون حرية وعدالة , فهما طريق خلق المواطن الصالح المدافع عن منجزات وطنه ومكتسباته , والمدافع عن ثغوره وحدوده , وهو الذي يكافح باستماتة من أجل عزة الوطن وتطويره . فالإنسان المقموع والمضطهد في وطنه , لا ينمو لديه حسن المواطنية بشكل إيجابي , وذلك لأنه باسم الوطن يضطهد ويقمع , وتحت علمه وشعاراته الوطنية تهان كرامته وتنتهك حقوقه . لذلك فإن طريق المواطنة هو الحرية وصيانة حقوق الإنسان والدفاع عن كرامته الإنسانية . إن هذه القيم والمبادئ , هي التي تخلق عند الإنسان الحس الوطني الصادق . وبدون هذه القيم , تضيع المواطنية , وإذا ضاعت المواطنية ضاع الوطن . لذلك لا وطن عزيزا بدون مواطنية عزيزة .
وإذا توفرت الحريات العامة , فهذا يعني توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع , وبلورة كفاءات نخبته , وإزدادت ابداعاته ومبادراته . وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن . ويخطيء من يتصور أن القهر والاستبداد والأساليب الأمنية المختلفة , هي القادرة علي خلق المواطنية وحالة الولاء الصادق إلي الوطن . .
ومن أجل تجسيد المواطنة في الواقع , علي القانون أن يعامل ويعزز معاملة كل الذين يعتبرون بحكم الواقع أعضاء في المجتمع , علي قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع بين الأفراد والجماعات . وعلي القانون أن يحمي وأن يعزز كرامة واستقلال واحترام الأفراد , وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات علي الحقوق المدنية والسياسية , وعليه أيضا ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الإنصاف . كما أن علي القانون أن يمكن الأفراد من أن يشاركوا بفعالية في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم , وأن يمكنهم من المشاركة الفعالة في عمليات اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتسبون إليها.
فالمشاركة الواعية بدون استثناءات ووصايات في شؤون الأمة والوطن , وقدرة كل مواطن إلي الوصول بكفاءته إلي أعلي المناصب والمستويات بصرف النظر عن منبته ومذهبه وقوميته , هو الذي يثري مفهوم المواطنة , ويجعل إنجازه مرهونا إلي حد بعيد إلي الحرية والديمقراطية .
ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسة لانهيار الوعي الوطني الصادق , هو عدم التعامل الجاد والديمقراطي مع مسألة الأقليات . إذ خضعت هذه المسألة للعديد من الاستقطابات السياسية المختلفة , وتم استخدامها كورقة في الصراعات السياسية , دون أن تنبري قوي نوعية للقيام بمبادرات سياسية جادة , تسعي نحو بلورة رؤية متكاملة وممكنة لهذه المسألة في المجالين العربي والإسلامي .
ولنا في التجربة النبوية في المدينة المنورة خير مثال ونموذج , إذ أن المواطنة التي شكلها رسول الله لم تلغ التعدديات والتنوعات , وإنما صاغ دستورا وقانونا يوضح نظام الحقوق والواجبات , ويحدد وظائف كل شريحة وفئة , ويؤكد علي نظام التضامن والعيش المشترك . إذ جاء في صحيفة المدينة : وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة , وآمن بالله واليوم الآخر , أن ينصر محدثا , ولا يؤويه , وإنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلي يوم القيامة , ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل . وإنكم مهما اختلفتم في شيء فيه من شيء , فإن مرده إلي الله وإلي محمد الرسول وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين : لليهود دينهم , وللمسلمين دينهم , ومواليهم , وأنفسهم , إلا من ظلم , أو أثم , فإنه لا يوتغ إلا نفسه , وأهل بيته (6). فسبيل المواطنة الصادقة , ليس التوحيد القسري والقهري للناس , وإنما بالحرية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وكرامته , نخلق مواطنا صالحا وفاعلا وشاهدا .
قوة المسلمين في حريتهم :
وإن الإنسان المسلم اليوم , لا يستطيع أن يمارس خصوصيته بكل جوانبها وأبعادها بدون حريته . فشرط ممارسة الخصوصية , هو أن ينال الإنسان المسلم حريته حتي يستطيع أن يوظف كل إمكاناته وقدراته , نحو العمران والتطوير . فالمطلوب أن ينال الإنسان المسلم حريته , وهي لا توهب , وإنما هي بحاجة إلي جهد وجهاد , سعي وكفاح , تدرج وتواصل , حتي تتراكم تقاليد وآداب الحرية في المحيطين الفردي والجماعي . فقوة العرب والمسلمين في حريتهم , لأنها بوابة الوحدة والإجماع , كما هي الوعاء الذي يستوعب جميع الطاقات والقدرات . ويرتكب خطأ جسيما ذلك الإنسان أو المجتمع , الذي ينشد أن يجسد إحدي القيم الكبري للإنسانية بدون الحرية والديمقراطية . فلا وحدة بلا حرية , ولا عدالة اجتماعية بدون حرية , ولا مساواة وتكافؤا للفرص بدون الحرية . فهي بوابة القيم الكبري وإكسيرها الذي يمنح الحياة لكل قيم الصعود والتقدم والتطور . فلتتوجه كل طاقاتنا وجهودنا , صوب إرساء دعائمها , وتوفير شروطها وتنظيم واقعنا ومجالنا السياسي والحضاري وفق هداها ومتطلباتها .
والحرية هي التي تعيد صياغة علاقتنا بمفاهيمنا وأفكارنا . فبدل أن تكون علاقة جامدة , اجترارية , سكونية , تتحول بالحرية إلي علاقة تفاعلية , تواصلية , ابتكارية . لذلك نجد أن القرآن الحكيم , يصرح أن مهمة الإسلام الأساسية , هي إزاحة الأغلال والقيود التي تحول دون ممارسة الإنسان لحريته ..
قال تعالي ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون )
لذلك نستطع القول : أن المنظومة المفاهيمية المعيارية في الإسلام , هي بحق تشكل إستراتيجية متكاملة في إرادة التحرر والانعتاق من كل السلطات والديكتاتوريات التي تقف حائلا دون ممارسة حق العبودية المطلقة لله عز وجل وحده . قال تعالي ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ).
وعلي هدي هذه القيم والمبادئ , نخلق فضاءنا الحر , ونمارس حريتنا وتعدديتنا , ونجسد حضورنا وشهودنا , ووقائع وحقائق الدفاع عن حريتنا وحرية غيرنا . فالحرية لا تعني بأي حال التفلت من القيم ومحاسن العادات والأعراف الاجتماعية , وإنما تعني استخدام إرادتنا والتعامل مع راهننا بما ينسجم والمثل العليا والضمير والوجدان .
وإن حاجتنا إلي الحريات وسيادة قيم الديمقراطية في مجتمعاتنا , ليس نابعا من مقولة ضرورة التكيف مع الأوضاع العالمية وتوجهها نحو الديمقراطية , وإنما هو نابع بالدرجة الأولي من حاجتنا إلي هذه الحريات , ومن شوقنا الخالد والدائم للديمقراطية , بحيث تبدأ مجتمعاتنا مسيرة اجتراح تجربتها الديمقراطية وتجسيدها لقيم الحرية في دوائرها المتعددة . فالمطالبة بالديمقراطية , والشعور بضرورتها وأهميتها لواقعنا الراهن , ليس وليد التقليد الصرف للآخرين وأطوارهم التاريخية , بل هو من صميم واقعنا ومسيس حاجتنا إلي هذه الحريات , حني نتمكن جميعا من الخروج من المآزق الكبري التي نعاني منها , وتحول دون إنطلاقتنا الحضارية . فقيمنا ومبادئنا وواقعنا ومآزقه العديدة , هو الذي يدفعنا إلي القول بضرورة التزام الديمقراطية كخيار إستراتيجي سواء علي صعيد السلطة ومؤسسات الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني .
إن الديمقراطية بثقافتها وآليات عملها والمناخ الذي تخلقه علي مختلف الصعد , هي القادرة علي تفكيك الكثير من العقد والأزمات بأقل خسائر ممكنة . وإن رفض هذا الخيار والنهج , يفاقم من العقد والأزمات , ويدخلنا جميعا في حقبة الانفجارات الاجتماعية والحروب الداخلية , التي لا تزيد أوضاعنا وأحوالنا إلا سوءا وتدهورا . وحدها الديمقراطية والحريات السياسية والثقافية , هي التي تؤسس لطريق جديد لمعالجة الأزمات من جذورها , وتنهي موجبات ديمومتها بأقل خسائر ممكنة علي جميع الصعد والمستويات .
ولا يوجد شيء مهما علا شأنه يعوضنا عن قيمة الحرية . فحينما تتوفر كل أسباب القوة الاستراتيجية والعسكرية والشعبية , دون قيمة الحرية , فإن هذه الأسباب لا تباشر دورها المطلوب , ولا تقوم بممارسة تأثيراتها المنشودة . فكاريزما جمال عبدالناصر والشعبية العارمة التي اكتسبها , لم تلغ حاجتنا إلي الحرية .
مع الحرية والديمقراطية , يبقي مشروع الوحدة ممكنا , وبدونها يبقي واقعنا ممزقا وراهننا متشرذما . ولا علاج لمآزقنا العديدة إلا بالحريات السياسية الحقيقية التي تسمح لجميع القوي والتعبيرات بالمشاركة النوعية في إدارة الشأن العام وتطوير الحقل السياسي والمدني الوطني . ومع الديمقراطية والحرية تبقي الأقليات عامل إثراء لمضامين الوحدة علي المستويات السياسية والاقتصادية والحضارية . وبدونها تبحث الأقليات عن مشروعها الخاص , وتتكور في دائرتها الخاصة . فيضيع الوطن الجامع , وتتبعثر مشروعات الوحدة والتوحيد .
وإذا أردنا للأقليات أن تعود إلي فضاء الوحدة ومجال التوحيد , فما علينا إلا إرساء دعائم الديمقراطية ومتطلبات الحريات الدينية والثقافية والسياسية , حتي تتجاوز مشروعاتها الخاصة وهواجسها الذاتية . فالحرية والديمقراطية هي الوسيلة الحضارية الوحيدة , القادرة علي إدماج الأقليات بشكل اختياري وإنساني مع النسيج العام . وذلك لأن الحريات تساهم بشكل أساسي في تنمية المشتركات وتفعيلها والدفع بها باتجاه خلق الوقائع السياسية والمجتمعية المنسجمة وحاجات ومتطلبات القواسم المشتركة.
بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
اجمل دعاء
"من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئا يعني أحب إليه من أن يسأل العافية "
Like/Tweet/+1
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 1 عُضو حالياً في هذا المنتدى :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 1 زائر
لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 21 بتاريخ الجمعة سبتمبر 02, 2016 1:59 am
لا يوجد حالياً أي تعليق